فصل: تفسير الآيات (38- 40):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (24- 25):

{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25)}
قلت: {مودَّةَ بينكم}: مَنْ نَصَبَها: فله وجهان؛ أحدهما: على التعليل، أي لتوادوا بينكم، والمفعول الثاني محذوف، أي: اتخذتم أوثاناً آلهة. والثاني على المفعول الثاني لاتخذتم، كقوله: {اتخذ آلهه هواه} [الفرقان: 43]. و(ما): كافة، أي: اتخذتم الأوثان سَبَبَ المودَّةِ على حَذْفِ مضاف، أو: اتخذتموها مَوْدُودَةً بينكم. و{بينكم}: نصب على الظرفية؛ نعت لمودة، أي: حاصلة بينكم. ومن رفع: فله وجهان؛ إما خبر إن، و(ما) موصولة، أو: عن مبتدأ محذوف، أي: هي مودة بينكم، و{بينكم}: مضاف إليه ما قبله.
يقول الحق جل جلاله: {فما كان جوابَ قومه}؛ قوم إبراهيم حين دعاهم إلى الله {إلا أن قالوا اقتلوه أو حَرِّقوه}، قاله بعضهم لبعض، أو: قاله واحد منهم، وكان الباقون راضين، فكانوا جميعاً في الحكم القائلين. فاتفقوا على تحريقه، {فأنجاه الله من النار} حين قذفوه فيها؛ بأن جعلها برداً وسلاماً. وتقدم في الأنبياء تمام القصة.
{إن في ذلك}؛ فيما فعلوه به وفعلناه {لآياتٍ} دالةً على عظم قدرته {لقوم يؤمنون}؛ لأنهم المنتفعون بالفصح عنها والتأمل فيها. رُوي أنه لم ينتفع بها في تلك الأيام أحد لذهاب حرها؛ لأن كل نار سمعت الخطاب فامتثلت.
{وقال} إبراهيمُ لقومه: {إِنما اتخذتم من دون الله أوثاناً}؛ أصناماً آلهة {مودَّةَ بينكم في الحياة الدنيا} أي: لتوادوا بينكم في الحياة الدنيا، وتواصلوا؛ لاجتماعكم على عبادتها، واتفاقكم عليها كما تتفق الناس على مذهب أو طريق، فيكون ذلك سبب تحابهم. أو: إنما اتخذتم الأوثان سبب المودة، أو اتخذتموها مودودة ومحبوبة بينكم، أو: إن التي اتخذتموها أوثاناً تعبدونها هي مودة بينكم في الدنيا، {ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض} أي: تتبرأ الأصنام من عابديها؛ كقوله: {الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [الزخرف: 67]. {ويعلن بعضُكم بعضاً}، فتلعن الأتباعُ الرؤساء:؛ {ومأواكم النار} أي: مأوى العابد والمعبود والتابع والمتبوع. {وما لكم من ناصرين} يحصنونكم منها.
الإشارة: الإنكار على أهل الخصوصية سنَّة الله في خلقه، فلا يأنف منها إلا جاهل، والاجتماع على التودد على غير ذكر الله ومحبته وما يقرب إليه، كله يؤدي إلى التباغض والتلاعن يوم القيامة؛ {الأخلاء يومئذٍ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين}، وهم المتحابون في الله، والمجتمعون على ذكر الله والعلم به. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (26- 27):

{فَآَمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآَتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)}
يقول الحق جل جلاله: {فآمن} لإبراهيم، أي: انقاد {له لوطٌ}، وكان ابنَ أخيه، وأول من آمن به حين رأى النار لم تحرقه. {وقال} إبراهيم: {إني مهاجرٌ إلى ربي}؛ إلى حيث أمرني ربي بالهجرة، وهو الشام، فخرج من كوثى، وهي من سواد الكوفة، إلى حرّان، ثم منها إلى فلسطين، وهي من برية الشام، ونزل لوط بسدوم، ومِنْ ثَمَّ قالوا لكل نبي هجرة، ولإبراهيم هجرتان. وكان معه، في هجرته، لوط وسارة زوجته.
وقيل: القائل: {إني مهاجرٌ إلى ربي} هو لوط، فأول من هاجر من الأنبياء إبراهيم ولوط. وذكر البيهقي: إن أول من هاجر منا في الإسلام بأهله: عثمان. ورفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه قال: إن عثمان لأول من هاجر بأهله بعد لوط. اهـ. يعني: الهجرة إلى الحبشة. وكانت- فيما ذكر الواقدي- سنة خمس من البعثة، وأما الهجرة إلى المدينة؛ ففي البخاري عن البراء: أولُ من قَدِمَ المدينة من الصحابة، مهاجراً، مُصعبُ بن عُمير، وابن أم مكتوم، ثم جاء عمَّارُ، وبلال، وسعد، ثم جاء عمر بن الخطاب في عشرين، ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم.
{إنه هو العزيزُ} الذي يمنعني من أعدائي، {والحكيمُ} الذي لا يأمرني إلا بما هو خير لي.
{ووهبنا له إسحاقَ} ولداً، {ويعقوبَ} وَلَدَ وَلَدٍ، ولم يذكر إسماعيل؛ لشهرته، أو: لأن إسحاق ولد بعد اليأس من عجوز عاقر، فَعَظُمَتْ المِنَّةُ به. {وجعلنا في ذريته النبوةَ} أي في ذرية إبراهيم فإنه شجرة الأنبياء، {والكتابَ} يريد به الجنسَ، ليتناول التوراة والإنجيل والزبور والفرقان. {وآتيناه أجْرَه في الدنيا} أي: الثناء الحسن، والصلاة عليه آخر الدهر، ومحبة أهل الملل له، أو: هو بقاء ضيافته عند قبره، وليس ذلك لغيره، أو: المال الحلال، واللفظ عام. وفيه دليل على أن الله تعالى قد يعجل لأوليائه بعض الأجر في الدنيا، ولا يخل بعلو منصبهم {وإنه في الآخرة لمن الصالحين} لحضرتنا، والسكنى في جوارنا. أسكننا الله معهم في فسيح الجنان. آمين.
الإشارة: الهجرة سُنَّة الخواص، وهي على قسمين: هجرة حسية وهجرة معنوية، فالحسية هي هجرة العبد من وطن تكثر فيه الغفلة والعوائق عن الله أو الإذاية والإنكار إلى وطن يجد فيه اليقظة وقلة العوائق. والهجرة المعنوية: هي هجرة القلب من وطن المعصية إلى وطن التوبة، ومن وطن الغفلة إلى وطن اليقظة، ومن وطن الحرص إلى وطن الزهد والقناعة، ومن وطن الحظوظ والشهوات إلى وطن العفة والحرية، ومن وطن الشواغل إلى وطن التفرغ، ومن وطن رؤية الحس إلى رؤية المعاني، وهذه نهاية الهجرة.
قال القشيري: لا تَصحُّ الهجرةُ إلى الله إلا بالتبرِّي بالقلب من غير الله، والهجرةُ بالنفس يسيرةٌ بالنسبة إلى الهجرة بالقلب، وهي هجرة الخواص، وهي الهجرة عن أوطان التفرقة إلى ساحة الجمعِِ، والجمعُ بين التعريج في أوطان التفرقة والكونِ في مشاهدة الجمع متنافٍ. اهـ. وقالَ في قوله تعالى: {وإنه في الآخرة لمن الصالحين} أي: للدنوِّ والقربة والتخصيص بالزلفة. اهـ.

.تفسير الآيات (28- 35):

{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آَيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)}
يقول الحق جل جلاله: {و} اذكر {لوطاً إِذْ قال لقومه إِنكم لتأتون الفاحشةَ} أي: الفعلة البالغة في القُبح، وهي اللواطة، {ما سَبَقَكم بها من أحدٍ من العالمين}: جملة مستأنفة مقررة لفحش تلك الفعلة، كأن قائلاً قال: لِمَ كانت فاحشة؟ فقال: لأن أحداً ممن قبلهم لم يقدم عليها، قالوا: لم يَنْزُ ذكر على ذكر قبل قوم لوط. {أئِنكم لتأتون الرجالَ وتقطعون السبيلَ} اي: تتعرضون للسابلة بالقتل وأخذ المال، كما هو شأن قُطاع الطريق، وقيل: اعتراضهم السابلة لقصد الفاحشة، {وتأتون في ناديكم}؛ في مجالسكم الغاصة بأهلها، ولا يقال للمجلس: ناد، إلا ما دام فيه أهله، {المنكرَ} فعلهم الفاحشة بالرجال، أو المضارطة، أو: السباب والفحش في المزاح، أو الحذف بالحصى، أو: مضغ العلك، أو الفرقعة.
وعن أم هانئ رضي الله عنها أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله: {وتأتون في ناديكم المنكر}؟ فقال: «كانوا يحذفون من يمرّ بهم الطريق، ويسخرون منهم» وقال معاوية: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن قوم لوط كانوا يجلسون في مجالسهم، وعند كل قصعة من الحصى، فإذا مر بهم عابر قذفوه، فأيهم أصابه؛ كان أَوْلَى به».
{فما كان جوابَ قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذابِ الله إن كنت من الصادقين} فيما تعدنا من نزول العذاب، أو في دعوى النبوة، المفهومة من التوبيخ، {قال ربِّ انصرني} بإنزال العذاب {على القوم المفسدين} بابتداع الفاحشة وحمل الناس عليها، وسَنِّهَا لِمَنْ بعدهم.
وصفهم بذلك؛ مبالغة استنزال العذاب، وإشعاراً بأنهم أحِقاء بأن يعجل لهم العذاب.
{ولما جاءت رسلُنا إبراهيم بالبشرى}، جاءت الملائكة بالبشارة لإبراهيم؛ بالولد، والنافلة إسحاق، ويعقوب، أي: مروا عليه، حين كانوا قاصدين قوم لوط، {قالوا إنا مهلكوا أهْلِ هذه القرية}؛ سدوم، والإشارة بهذه القرية تشعر بأنها قريبة من موضع إبراهيم عليه السلام، قالوا: إنها كانت على مسيرة يوم وليلة من موضع إبراهيم، قاله النسفي. {إن أهلها كانوا ظالمين}، تعليل للإهلاك، أي: إن الظلم قد استمر منهم في الأيام السالفة، وهم عليه مُصِرُّونَ، وهو كفرهم وأنواع معاصيهم. {قال} إبراهيم: {إن فيها لوطاً} أي: أتهلكونهم وفيهم من هو بريء من الظلم، أو: وفيهم نبي بين أظهرهم؟ {قالوا} أي: الملائكة: {نحن أعلمُ} منك {بمن فيها لننجيَّنه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين}؛ الباقين في العذاب.
ثم أخبر عن مسير الملائكة إلى لوط بعد مفارقتهم إبراهيم، فقال: {ولما أن جاءتْ رُسُلُنَا لوطاً سِيء بهم} أي: ساءه مجيئُهم وغمه مخافة أن يقصدهم قومه بسوء. و{أن}: صلة؛ لتأكيد الفعلين وترتيب أحدهما على الآخر كأنهما وُجِدا في جزء واحد من الزمان كأنه قيل: لمَّا أحس بمجيئهم فاجأته المساءة من غير ترتيب.
{وضاق بهم ذَرْعاً} أي: ضاق بشأنهم وتدبير أمرهم ذرعُه وطاقته، وقد جعلوا ضيقَ الذرعِ والذراع عبارةً عن فقد الطاقة، كما قالوا: رحْب الذراع، إذا كان مُطيقاً للأمور، والأصلَ فيه: إن الرجل إذا طالت ذراعه نال مالا يناله القصير، فاستعير للطاقة والقوة وعدمها.
{وقالوا}، لمّا رأوا فيه أثر الضجر والخوف: {لا تخفْ ولا تحزنْ} على تمكنهم منا، {إنا منجُّوكَ وأهلَكَ} أي: وننجي أهلك، فالكاف في محل الجر، و{أهلك}: نصب بفعل محذوف، {إلا إمرأتكَ كانت من الغابرين}. في الكلام حذف يدل عليه ما في هود، أي: لا تخف ولا تحزن من أجلنا، إنهم لن يصلوا إليك ونحن عندك، بل يهلكون جميعاً، وأما أنت؛ فإنا منجوك... إلخ؛ لأن خوفه إنما كان عليهم لا على نفسه. أو يقدر: إنا منجوك وأهلك بعد هلاكهم. ثم قالوا: {إنا منزلون على أهلِ هذه القرية رِجْزاً}؛ عذاباً {من السماء بما كانوا يَفْسُقُون}؛ بسبب فسقهم.
{ولقد تركنا منها}؛ من القرية {آية بينةً} هي حكايتها الشائعة، أوآثار منازلهم الخربة، وقيل: الماء الأسود على وجه الأرض، حيث بقيت أنهارهم مسودة، وقيل: الحجارة المسطورة، فإنها بقيت بعدهم آية {لقومٍ يعقلون}؛ يستعملون عقولهم في الاعتبار والاستبصار. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قوله تعالى: {وتأتون في ناديكم المنكر} قال القشيري: من جملة المنكر: تخلية الفُسَّاق مع فِسقهم، وترك القبض على أيديهم، ومن ذلك: ترك الاحتشام للشيوخ والأكابر. اهـ. وقال في قوله تعالى: {إن فيها لوطاً}، لما أخبروه بمقصدهم من إهلاك قوم لوط تكلم في شأن لوط، إلى أن قالوا: {لننجينه...} إلخ، فدلّ ذلك على أن الله تعالى لو أراد إهلاك لوط، ولو كان بريئاً، لم يكن ظلماً، لو كان كذلك قبيحاً لما كان إبراهيم- مع وفْر علمه- يُشكل عليه، حتى كان يجادل عنه، بل لله أن يعذِّبُ مَنْ يعذِّب ويعافي، من يعافي بلا حَجر. اهـ.
قال شيخ شيوخنا الفاسي في حاشيته: وما ذكره واضح من حيث العقيدة، وإن كانت الآية، وقولُ إبراهيم يحتمل أن يكون من نوع قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33]. والمعنى الأول معلوم من قوله تعالى: {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ} [المائدة: 17] الآية. اهـ. قلت: ظاهر قوله تعالى: {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 74]؛ أن مجادلته كانت عن قومه فقط؛ لغلبة الشفقة عليه، كما هو شأنه، ولذلك قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} [هود: 75]... حتى قال له تعالى: {ياإبراهيم أَعْرِضْ عَنْ هاذآ عَنْ هَذَا} [هود: 76] لَمَّا تَحَتَّمَ عليهم العذاب، فتأمله.

.تفسير الآيات (36- 37):

{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآَخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37)}
يقول الحق جل جلاله: {و} أرسلنا {إلى مدينَ أخاهم شعيباً فقال يا قوم اعبدوا الله} وحده، {وارجُوا اليومَ الآخر} أي: خافوه، واعملوا ما ترجون به الثواب فيه، {ولا تعثوا في الأرض مفسدين}؛ قاصدين الفساد، {فكذّبوه فأخذتهم الرجفةُ}؛ الزلزلة الشديدة، أو: الصيحة من جبريل عليه السلام؛ لأن القلوب رجفت بها، {فأصبحوا في دارهم}؛ بلدهم وأرضهم، {جاثمين}؛ باركين على الرُكب؛ ميتين.
الإشارة: العبادة مع الغفلة عن العواقب الغيبية المستقبلة، لا جدوى لها، كأنها عادة، وخوف العواقب، من غير استعداد لها، خذلان، والاجتهاد في العمل، مع ارتقاب العواقب الغيبية، فلاح، من شأن أهل البصائر، كما قال تعالى في حق من مدحهم من أكابر الرسل: {أُوْلِي الأيدي والأبصار إِنَّآ أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدار} [ص: 45، 46].

.تفسير الآيات (38- 40):

{وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)}
يقول الحق جل جلاله: {وعاداً وثمودَا} أي: اذكر عاداً وثموداً، أو أهلكنا عاداً، وثموداً يدل عليه {فأخذتهم الرجفة}؛ لأنه في معنى الإهلاك، {وقد تبيَّنَ لكم} ما وصفنا من إهلاكهم {من مساكنهم} الدارسة. أو تبين لكم بعض مساكنهم الخربة إذا مررتم بها خالية. {وزيَّنَ لهم الشيطانُ أعمالهم} من الكفر والمعاصي، {فصدَّهم عن السبيل}؛ عن الطريق الذي أُمروا بسلوكه، وهو الإيمان بالله ورسوله. {وكانوا مستبصرين}؛ متمكنين من النظر والاستبصار وتميز الحق من الباطل ولكنهم لم يفعلوا. أو عارفين الحق من الباطل؛ بظهور دلائله، لكنهم عاندوا، حسداً. يقال: استبصر: إذا عرف الشيء على حقيقته. أو: متيقنين أن العذاب لاحق بهم؛ بإخبار الرسول، لكنهم لجّوا. أو: مستبصرين في ضلالتهم معجبين بها.
وقال الفراء: عقلاء ذوو بصائر، يعني: علماء في أمور الدنيا، كقوله: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الحياة الدنيا} [الروم: 7] الآية. وقال مجاهد: حسبوا أنهم على الحق، وهم على الباطل. اهـ.
{وقارونَ وفرعونَ وهامان}: أي: أهلكناهم، {ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين}؛ فائتين، بل أدركهم أمر الله فلم يفوتوه. يقال: سبق طالبه: فاته، {فكُلاًّ أخذنا}؛ عاقبناه {بذنبه}، فيه رد على من يُجوز العقوبة بغير ذنب. قاله النسفي، وهو جائز عقلاً في حقه تعالى، لكنه لم يقع؛ لإظهار عدله. {فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً} أي: ريحاً عاصفة فيها حصباء أو: مَلِكاً رماهم بها.
قال ابن جزي: فيحتمل عندي أنه أراد به المعنيين؛ لأن قوم لوط هلكوا بالحجارة، وعاداً هلكوا بالريح. وإن حملناه على المعنى الواحد؛ نقض ذكر لآخر، وقد أجاز كثير من الناس استعمال اللفظ الواحد؛ في معنيين، ويقوي ذلك إن المقصود عموم أصناف الكفار. اهـ.
{ومنهم من أخذتهم الصيحةُ}؛ كمدين وثمود، {ومنهم من خسفنا به الأرضَ} كقارون، {ومنهم من أغرقنا}؛ كقوم نوح، وفرعون وقومه، {وما كان الله ليظلمهم} فيعاقبهم بغير ذنب؛ إذ ليس ذلك من عادته- عز وجل-، وإن جاز في حقه، {ولكن كانوا أنفسَهم يَظْلِمُون}؛ بالتعرض للعذاب بالكفر والطغيان. وبالله التوفيق.
الإشارة: الاستبصار في أمور الدنيا والتحديق في تدبير شؤونها، حمق وبطالة، وقد وسم به الحق تعالى الكفرة بقوله: {وكانوا مستبصرين}، والاستبصار في أمور الله تعالى وما يقرب إليه وما يبعد عنه، والفحص عن ذلك، والتفكر في عواقب الأمور؛ من شأن العقلاء الأكياس، قال صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن من علامات العقل: التجافي عن دار الغرور؛ والإنابة إلى دار الخلود، والتزود لسكنى القبور، والتأهب ليوم النشور»، وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: «الكِّيسُ من دانَ نَفْسَه وعَمِلَ لِما بعدَ الموت، والأحمق من أتْبَعَ نفسه هواها، وتمنَّى على اللهِ الأماني»، وقيل للجنيد رضي الله عنه: متى يكون الرجل موصوفاً بالعقل؟ فقال: إذا كان للأمور متميزاً، ولها متصفحاً، وعما يوجبه عليه العقل باحثاً، فيتخيرُ بذلك طلب الذي هو أولى، ليعمل به، ويُؤْثِرَهُ على ما سواه. ثم قال: فمن كانت هذه صفته ترك العمل بما يفنى وينقضي، وذلك صفة كل ما حوت عليه الدنيا، وكذلك لا يرضى أن يشغل نفسه بقليل زائل، ويسير حائل، يصده التشاغُلُ به، والعملُ له، عن أمور الآخرة، التي يدوم نعيمها ونفعها، ويتأبد سرورها، ويتصل بقاؤها.. إلخ كلامه.